ألبوم “كاري اند لوييل” والشِفاء بالفن

 

لقد كانّت دائمًا فكرة أنه بالفنّ وحده نستطيع أحياء كُل الذين نحبهم للأبد، لا تفارقني!

يقول مُخرج الأفلام التشيلي ” جودوروسكي” مُتحدثًا عن أخر افلامه : ” شعر لا نهائي”  بأنه أختار أن يعود إلى ماضيه لينقد نفسه القديمة، ليغير العالم الذي كان يعيش فيه ويجعله أجمل مِما هو عليه في ذاكرته، ليمنح المزيد مِن الحرية لأمه، وليسلب والده المتسلط غطرسته.. فقد كان يُؤمنّ أنه بالفن وحده نستطيع مُعالجة العالم مِما هو عليه، فالفن وِجد لشفاء أرواحنا ولشفاء العالم أو كَما يردّد: “الكِلمات لا تُشفِي، إنما الفن يُشفِي“. و كذلك يبدو بأن مُغني الفولكلور سفيان ستيفينز كان يحاول مُعالجة حياته بهذه الطريقة، بعد وفاة أمه بسبب اصابتها بسرطان المعدة، ربما أراد أن يعتذر لها أو أن يمنحها مزيدًا من الحُب أو يُحييها للأبد في عمل فني!

ومِن هذا المنطلق جاء موضوع أغاني ألبومه الذي صدر عام 2015 وأطلق عليه ” كاري ولوييل Carrie & Lowell .”

 

“وما هدي الأغنية التي ستُرتلها على الميتة؟”(1)

 

أتذكر قبل عام ونِصف أو ما يزيد، حِين تعثرتُ بألبوم سفيان ستيفينز لأول مرة. كُنت ابحث عن قائِمة لأفضل ألبومات الفولكلور المُستقل ” Indie folk” وبعد تصفح العديد من القوائم في مواقع مُختلفة، كان أسمه يلاحقني في كل قائمة منها.. فقد كان ألبوم ” كاري أند لوييل” يتصدر مُعظم تِلك القوائم بعد نهاية العام 2015 بحيث أنني قررتُ في النهاية، أن استمع لأحد اغاني الألبوم بعشوائية على اليوتيوب في محاولة للأكتشاف، وكان أول رد فعل: “همم، مُوسيقى لا تتوافق مع ذُوقي!

بوسعي أن اتذكر رد فعلي السريع وقتها، ذلك أنني، أولًأ: لم أكنّ من مُحبي المُغنيين ذويّ الصوت “الناعم” فغالبًا ما كنت أميل لأصحاب الحناجر الصارخة (إلفس مثلًا على ذلك) وجاء هذا الانطباع المُستعجل قبل حتي أن استمع لأي أغنية كاملة من أغنيه، فقد كُنت معتادة على هذا النوع من المغنين الحديثين الذين غالبًا ما أمل من اعمالهم ولا استطيع التفاعل معها ولا مواصلة الاهتمام بما يقدمون، كما يعلم مُعظم اصدقائي فأنا من النوع الذي يُفضل الروك والفولكلور الكلاسيكي.. الظريف هُنا، أنه ومنذ ذلك اليوم، قرر سُفيان ستيفينز على نحو غريب مُلاحقتي لا فقط في القوائم المخصصة لألبومات الفولكلور، بل في كل مكان على الانترنت، حتي أصبح المُغني المفضل عندي..

 

كاري أند لوييل:

 

يفتتح سفيان ستفينز اول اغاني البومه (وهو السابع في مسيرته الغنائية)، بعبارات يحاول فيها الاستنجاد بروح أمه الراحلة، ومحاولة لقتل ذلك الفراغ الذي اصابه بعد رحيلها فيبدأ بهذا السؤال:

“لا أدري من أين أبدأ؟”(1)

“لا أدري من أين أبدأ؟”

تركت والدة سفيان والده بعد ولادته بعام، لهذا هو لا يملك أية ذكري لهما سويًا. تعرفت “كاري” على “لوييل” بعد رحيلها عن اسرتها، تاركة سفيان وأخوته الأكبر سنًا للعيش مع والدهم (الذي تزوج لاحقًا..) لأنها لم تكنّ مستعدة لتحمل المسؤولية ولأنها كانت تعاني من الاكتئاب الحاد والشيزوفرينيا.. ” كان يجب أن اعرف أفضل(2) كان لوييل يعمل في متجر للكُتب في ولاية اورجن، (3) Eugene وكان سفيان يتذكر ذاهبه إلي هناك لزيارة أمه وزوجها، وقضاء الصيف عندهما  لمدة ثلاث سنوات قبل فراقهما “عندما كُنت في الثالثة أو الرابعة رحلت وتركتنا في متجر الفيدو(2)  لقد كانت علاقة سفيان بلوييل اقوى مِن علاقته بأمه وأبيه، هذا ما ردده في الأغنية “ الرجل الذي علمني السباحة\ لم يكنّ يجيد نُطق أسمي الأول\ كالأب كان لي، وضع الماء على رأسي\ونادني “سُوبارو(3)  فرغم رحيل كاري التي كانت تعيش في كل مكان، واحيانًا في اللا مكان متشردة، وادمنت على الكحول، والحياة لوحدها بسبب امراضها.. فلوييل ظلا مع سفيان حتي بعد فُراقه عن كاري، فهو صاحب شركة التسجيلات التي سوف يقوم سفيان بإنتاج كل البوماته الموسيقية معها..

أتذكر جيدًا خلال تلك الفترة التي كُنت مصرة فيها على أن لا استمع للسفيان، أن ألبوماته كانت موجودة حتي في قوائم أفضل البومات الفولكلور  اوكُتاب الأغاني على الإطلاق (*)، مُتنافسًا مع البومات كلاسيكية لإليوت سميث، ونِيك دريك.. وكانت أخر مواجهة اعتراض لي مع أغانيه قبل أن استسلم بالاستماع لألبوماته كاملة دفعة واحدة خلال أسبوع واحد، حين شاهدتُ بمحض الصدفة مُقابلة له في عرض فني في بروكلين، المدينة التي يعيش فيها سفيان حاليًا. يتكلم فيه عن “ أغلفة ألبوماته” التي استوحي معظمها من أعمال فنان فولكور ورسام غير معروف شعبيًا، يُدعي “رُويال روبيرتسون.”

 

هناك أمر جذاب فيما يتعلق بأغلفة البوماته، إضافة لأنه لم يصور أية فيدو كِليب، عدا العروض الحية التي يظهر فيها مرتدًا اجنحة النِسر والحمام -والذي يقوم بتصميم كل راقصاتها بنفسه، والفيديوهات الصوتية لأغانيه.. شغفه برجال الفضاء، الاساطير والتاريخ والديانة المسحية، والثقافة الامريكية. واخيرًا: لا يوجد أية نشاط له على السُوشيال ميديا ويكره كُل ما هو عصري!

كانت شخصيته هو ما جذبني أولاً ثم الغوص في عوالم ألبوماته!

 

“كاري فجأتني “

 

يتسأل سفيان عن ما هية هذه الأغنية التي يجب أن يترتلها على روح الميتة! وعلى ذلك المِحور تدور أغاني الألبوم، يبحث من خلالها عن اجابة لحيرته وضياعه بعد صدمة الموت.. بين إحساس بالحسرة والندم، ورغبته في سماح أمه والتقرب منها وبين ذكريات بعيدة لم يعد هناك فرصة لتغيرها، وكذلك شعوره بالوحدة.. ففي احدى الأغاني يقول لنفسه، كان يجب أن اكتب لها رسالة (2).. وفي اغنية أخرى يتسأل كيف حدث كل هذا؟ وانه يريد أن ينقدها من عذابتها.. ماذا يجب أن أقول حتي اعيدك من الموت؟(4) تتحول أمه في بعض الأغاني لطيف! طيف يحول بينه وبين ذاته، طيف يوقفه من محاولات للموت، “الشيء الوحيد  الذي أوقفني” فيسأل في يأس “ ما نفع ترتيل الأغاني\مادام انهم ابدًا لن يسمعوك؟(3) هل هدر حياته وهو يتظاهر بالغباء؟  فلا شيء يُمكن أن يتغير\ والماضي سيظل في الماضي (2).

في المرة الأولى التي استمعت فيها لأغاني الألبوم بعشوائية، كما ذكرت سابقًا، مِن دون ترتيب وانتظام، كانت الأغاني لتبدو اقرب لكونها رومانسية أو صِراع مع الوحدة من كونها اعترافات أبن يحاول نِيل المغفرة من امه أو الغُفران لها.. لكن ما شدني لهذه الأغاني التي تحولت بشكل تدريجي الي جزء دائم في قوائم الموسيقى اليومية خاصتي (اكثر ألبوم استمعت له في حياتي خلال العام الأخير ربما؟)، كان تطور علاقتي بهذه الأغاني مع الوقت، مع فهمي لقصة كاري أكثر.. ومحاولتي لفك طلاسم اللغة.. ليظهر احساس الندم والتخبط والضياع واضحًا في صوت سفيان وكذلك قدرته على جعلك تتفاعل مع الاغاني عاطفيًا فتجد نفسك أحيانًا ترغب في البُكاء بشدة.. وكذلك الألعيب التي استخدمها في كِتابة هذه الأغاني، فلسفته الخاصة في كِتابة الأغاني، التي تبدو في بعض الاحيان عصية الفهم، كما يقول سفيان في احد مقابلاته مؤخرًا: “ لقد طورت الصوت في كِتابتي للأغاني مِن خلال ثقنيات الطريقة التقليدية لكتابة القِصص الخيالية التي تعلمتها من زيارتي لورشات تدريب الكِتابة الابداعية، لقد استغللت فقط كُل تلك الاشياء التي تعلمتها هناك، واعتمدتُ على طريقة “أظهر ولا تُخبر” (*) لكنه، وعوضًا عن جعلها اقرب للقصص التي تُحكي بشكل واضح، جعلها قصص متقطعة، بين كونها واقعية وكونها خيالية، وكُتبت كما تُكتب القصائد باسلوب شاعري، وهذا ما تفتقر له معظم الاغاني الحديثة مِن وجهة نظري.. فاستعمال الأسطورة في بعض سطور الاغاني، اعطاها طابعًا غريبًا.. واحيانًا تحولت لما يشبه التراتيل الدينية. كل قطعة مِنها تُكمل القطعة التالية (الاغنية التالية حيث ان بعض الأغاني تبدو كما لو انها غير واضحة لوحدها).. فمن المُمكن أن نأخذ هذا المقطع من أغنيه ” Forth of July” والتي هي أقرب الأغاني إليّ من بين أغاني الألبوم، كمثال جيد ومختصرًا لكل تلك الرموز التي ستجدها في معظم اغانيه:

ما الذي يُمكن أن تتعلمه مِن  حرائق تيلموك* أو من الرابع مِن يوليو\ أكثر مِن أننا كُلنا سنموت!” (4)

Tell me, what did you learn from the Tillamook burn?

Or the Fourth of July?

We’re all gonna die.”

 

فلا يمكنّ أن يكتب سفيان عن حياته الخاصة، من دونّ يلجئ في وضع تاريخًا لربطها بحادثة قد وقعت في الويلات المتحدة.. مِثل ذكره “للرابع من يوليو” أو “حرائق تيلموك” التي وقعت في منطقة (3) Eugene  المكان الذي كان يذهب فيه لزيارة أمه في طفولته، وكذلك روح المكان حاضرة بقوة في معظم اغاني الألبوم، أذ ان عدم معرفتك ببعض الاماكن الموجودة والاحداث في الولاية هو ما سيشكل صعوبة في فهمك للأغاني من خلال الاستماع الأول -الا في حالة عدم اهتمامك لما تعنيه!! ومن خلال تتبعك لأغانيه ولكل هذه الاحداث التاريخية والوقائع، ستجد بشكل ما، بأن معرفتك عن تاريخ وثقافة امريكا يتوسع بشكل كبير.. (وهذا واضح جدًا في ألبومه Illinois)، والأمر الأخر في بعض الأغاني الأخرى في الألبوم مثل The Only Thing يبدو الشغف بالأسطورة ظاهرًا، حيث يفتتحها بالغناء عن “بيغسوس” ومن يعرف هذه الشخصية الاسطورية، سيعرف بأنه أبن “ميدوسا”، ونجد هنا مُحاولة التشبيه بين علاقته بأمه وعلاقة بيغسوس بميدوسا الذي ولد مِن دمائها بعد أن قُطِع رأسها (وخلال الأغنية يقوم بسؤالها إن كانت قد احبته قط؟).. والعنصر الأهم الذي لابد وان تشتم حرائقه في كل اغانيه هو” الموت.” الذي يختصر به سفيان كل مشاعره هُنا بعد استسلامه من محاولات الاعتذار والسماح، وقتل الألم مذكرًا نفسه:

 كلنا سنموت!!

كُلنا سنموت!!

كلنا سنموت!!

كُلنا سنموت!! (4)

 

رغم عيشته بعيدًا عنها، يقول سفيان عن موت أمه: ” كان موتها مدمرًا لي بسبب المشاعر التي بداخلي. كُنت احاول جمع كل ما استطعت مِنها: من عقلي، من ذاكرتي، من لحظاتي معها. لكن لم يكن هناك شيء، شعرتُ بأمر مفقود. بالطبع هناك الكثير من الندم والحسرة، والغضب. لقد مررت بكل مراحل الحزن، لكن أقول لك ما دام بوسعك، فأستغل كل فرصة عندك: لتتصالح مع كل الذين تُحبهم أو بينك وبينهم عداوة. فقد كان لمصلحتنا أن تتخلي أمنا عنا في ذلك الوقت، فليحفظها الرب لأنها عرفت وأدركت ما عليها فعله في الوقت المناسب، كانت تعرف بأنها غير قادرة على تحمل مسؤوليتنا، فرحلت…”(*)

“كيف سوف أعيش مع طيفك؟” (5)

 

لا يُحاول سفيان استعطاف المستمعين، ولا يحاول الهروب من حقيقة ندمه مِن اهماله لأمه لأنها كانت اكثر قسوة عليه بتخليها عنه. لكنه من خلال هذه الأغاني، التي استغرق في كتابتها بعد موتها.. خلق سفيان التصالح معها، ومع نفسه .. كل أغنية في الألبوم، هي رسالة لها في عالم الاموات، وهي محاولة لتطهير ذاته من كل خطاياها.. فيصل في النهاية لهذه الحقيقة: “ نحن نلوم أهلنا على كثير من الامور التي تحدث لنا سواء كان ذلك للأفضل أو الأسوء، لكن هذا تكافلي. فالأبوة هي تضحية كُبري!” وبهذا أعترف لها بأنه يغفر لها “ أنا أسمحك، يا أمي” (1) على كل ما فعلت حتي تخليها عنه!!

ولذلك السبب، لم أجد أفضل مثالًا مِن هذا الألبوم للحديث عن ” الشفاء بالفن.”

 

هلْ ينبغي عليَّ أنّْ أفقأ عينيَّ خارجًا ؟

فكلُّ شيءٍ ألمحهُ الأن يعود لكِ..

هلْ ينبغي أنّْ أُمزِّق قلبي خارجًا؟

فكلُّ شيءٍ أستشعر بهِ الأن يعود لكِ..

 

إنّي أريد انقاذكِ مِن كلِّ هذي العذابات… 

_______________________________________________________

(1) اغنية Death with Dignity

(2) اغنية Should Have Known Better

(3) الأغنية الخامسة Eugene في الألبوم تحمل اسم المنطقة التي عاشت فيها كاري مع لوييل في ويلايه اورجن

(4) أغنية Fourth of July

(5) اغنية the only thing

  • * حرائق تيلموك هي واقعة حريق شهيرة حدثت في غابات مقاطعة Eugene

 

فكرة واحدة على ”ألبوم “كاري اند لوييل” والشِفاء بالفن

أضف تعليق